الأحد، مارس 08، 2020

صفحات مشرقة من حياة الفقيد العلامة الدكتور محمد لقمان السلفي

 محمد ضياء الحق التيمي

تُوفّي الوالدُ العلّامة الدكتور محمد لقمان السلفي ظهر الأربعاء 9 من رجب سنة 1441 هجريةً، الموافق 4 مارس سنة 2020 ميلادية، عن عمرٍ يَناهزُ 77 عامًا، وكان نبأُ وفاتِه وقعَ كَصَاعقةٍ عليَّ وعلى أسرةِ جامعة الإمام ابن تيمية خصوصًا، وعلى الأوساطِ العلميَّةِ والدَّعويةِ في الهند وخارجِها عمومًا، وقد غشِيَتْ سحابةُ الحُزنِ والكآبةِ الجَوَّ، وبدأ الناس يتبادلون التعازي فيما بينهم، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على القَبول الذي وَضَعَه الله تعالى له عند الناس.
كان الوالد العَلَّامة عالمًا نِحريرًا، ومفسِّرًا عظيمًا، ومُحَدِّثًا كبيرًا، وأديبًا بارعًا، وكاتبًا قديرًا، وخطيبًا مِصْقَعًا، قضَى حياتَهُ كُلَّها في خدمةِ العلمِ والدين، وله خدماتٌ جليلةُ وجهودٌ جبَّارةٌ في مجال التأليف والترجمة، والتبليغ والدعوة إلى الله، وإنشاء المراكز التعليمية والبحثية، وإقامة المطابع، وكان معروفًا بالجِدِّ والاجتهادِ والصَّبرِ والمُثَابرة، والنُّصحِ والخيرِ للجميع، وقد خَلَفَ وراءَه صُرُوحًا علميَّةً شامخةً في صورة جامعة الإمام ابن تيمية، وفروعِها، وجامعة خديجة الكبرى لتعليم البنات، ومركز ابن باز للدراسات الإسلامية، وتُراثًا عظيمًا من المُؤلفاتِ النَّافعةِ البديعةِ التي سَارتْ بها الرُّكْبان في العقيدةِ، والتَّفسيرِ، والحديثِ، والفقهِ، والسِّيرةِ النبويَّةِ، والأدبِ.
وكان الوالد العلّامة عاش حياةً هادِفَةً بنّاءةً، فَوَضعَ خِطَّةً استراتيجيةً مُحْكَمَةً لإنجازِ مشاريع علميةٍ ضَخْمَةٍ ومُتَنَوِّعةٍ لِتربيةِ الأجيالِ القادِمةِ على العقيدة السليمةِ، والتَّمَسُّكِ بالكتابِ والسًّنةِ سُلُوكًا ومنهجًا.
ومن تلك المشاريع:
إعدادُ مقرراتٍ دراسيةٍ متكاملةٍ لطلاب المدارس، تتَّفِقُ هي ومداركهم مع مراعاة مُسْتَجِدّاتِ العَصْرِ لِمَا كان يَفْطِن إلى ضرورةِ إصلاحٍ وتغييرٍ في المقررات السائدة في مدارس القارة الهندية.
فانبرى يقوم بهذه المُهِمَّةِ الشَّاقَّةِ لِمَا تعجِزُ عنه المؤسَّساتُ والجامعاتُ، واعتنى بكتبٍ في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والسيرة النبوية تأليفًا، وشرحًا، وتعليقًا، وتهذيبًا، وجمعًا، وتحقيقًا.
ومن هذا المنطلق أعدّ كتبًا عديدة، منها:
في الحديث النبوي: "هَدْيُ الثَّقَلَين في أحاديثِ الصحيحين”، و”تُحفَةُ الكِرَام في شرح بلوغ المرام”، و”فتحُ العلَّام شرح بلوغ المرام”، ورشُّ البردِ شرح الأدبِ المُفرد”.
وفي التفسير: "فُيوضُ العلَّام في أحاديث الأحكام”.
وفي الفقه: "السَّعيُ الحثيثُ في فقهِ أهلِ الحديث”، وهو من أنفعِ كُتُبِهِ وأشهرِها، وقد ذكر لي أحدُ زملائي في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية أنَّ أحدَ مشايخِ كلية الحديث بالجامعة أوصاهُ باقتناءِ هذا الكتابِ، والاستفادةِ منهُ، لِمَا يَتَمتَّعُ بِه الكتابُ مِن غزارةِ المادةِ، ورُوح الإنصافِ، والتجرُّد للدليل، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على إخلاصِ شيخِنا ومُرَبِّينَا، وبَرَاعتِهِ في جَوْدَةِ التصنيفِ، وحُسْنِ التأليف.
وفي السِّيرةِ النَبَويَّة: ألّف كتابين مُهِمِّينِ باللُّغة العربية، ثم قام بنقلِهِما إلى الأردية، أحدهما: "الصَّادقُ الأمين”، والثاني: "سيِّدُ المرسلين”.
والكتاب الأخير "سيّدُ المرسلين” يَنِمُّ عن تَضلُّعِه من اللغة العربيةِ الفُصحى، وبرَاعته في صياغةِ المعلومات بأسلُوبٍ ساحرٍ جذَّابٍ، وبَيَانٍ مُشْرِقٍ وضَّاءٍ، ومرَّةً قد ذكرْنا للشيخ الوالد انبهَارَنا بأسلوبِه في هذا الكتاب فقال ما معناه: قد سَكَبْتُ فيهِ عَصَارةَ رُوحي، وحَرَّقتُ دمِي وقلْبِي في سَبْك كلماته، وصياغةِ عباراتِه”
وفي "الأدب العربي” أعَدَّ سلسلةً ذهبيَّةً، زَانَهَا بمُقتطِفَاتٍ من القرآن والسنة، وأوْدَعَ فيها القِصَصَ الماتعةَ، والحكاياتِ الرائعةَ، والأمثال المُعْجَبةَ، والأبياتِ الشِّعْرِيَّةَ البليغةَ، والمعانى السَّاميةَ، مع مراعاة مستوياتِ الطلاب لينشأ الجيلُ الجديدُ عَلى حُبِّ اللُّغَةِ العرَبِيَّةِ، والتَّضُلعِ منها، وسمّاها "السلسلة الذهبية للقراءة العربية”، وهذه السِّلسَلةُ في اثني عشَرَ مُجَلَّدًا، وهِي هديَّةٌ أدبيةٌ جميلةٌ، وزَادٌ أدَبِيٌّ للطُّلابِ الرَّاغِبينَ فِي تَقْوِيةِ مَلِكَاتِهم الأدَبِيَّة.
قال الوالد العلّامة عن هذه السلسلة: "وقد استفدتُ في إعداد هذه السلسلة الذهبيةِ من الكتبِ المقرَّرَةِ في مدارسِ المملكة العربية السعودية وجامعاتِها، ومن المصادرِ والمراجعِ اللُّغويّةِ والأدَبيَّة الأخرى الكثيرة، وغَرْبَلْتُها وأدخلتُ في الموضوعات التى اختَرْتُها التَّعديلاتِ اللَّازِمةَ وَنَقَّحْتُهَا وهذَّبْتُهَا حتى جعلتُهَا لائقةً مناسِبَةً للطلَّابِ والطَّالباتِ في البلدان الغير العربية”.
وكان الوالد العلّامة لم يقتصر جُهودَه على تلبيةِ حاجاتِ المدارسِ والطلاب فَحَسبُ، وسَدِّ الفراغِ فيها، بلْ صَرَفَ همَّه أيضًا إلى تطهيرِ المجتمعِ من الشرك والبدعِ، ونشرِ السُّنةِ والعقيدةِ السَّلَفِيةِ فيه، ومِنْ هنا اعتنى ببعض كتب العقيدةِ السلفيةِ تنقيحًا وتهذيبًا مثل كتاب تقوية الايمان، وببعضها الآخر ترجمةً ونقلًا من العربيةِ إلى الأرديةِ ككتاب التوحيد، وقرَّة عيون الموحِّدين شرح كتاب التوحيد، وعقيدة المسلم، وبيان عقيدة المسلم ودينه”.
وكان يحرٍصُ حِرْصًا شديدًا على رَبْطِ المسلمِ بِكِتابِ الله تلاوةً وفهْمًا وتدبُّرًا، وبِسُنَّةِ رسوله تأسِّيًا واقتداءً، فقام بأعظمِ مشروعٍ علمي في حياته ألا وهو تفسير كتاب الله باسم "تیسیر الرحمٰن لبیان القرآن” في ثلاثِ مجلَّداتٍ ضَخمةٍ بثلاثِ لُغاتٍ حيّةٍ محلِّيةٍ وعالميةٍ، الأرديةِ والهنديةِ والانجليزية.
وكان يسعى لِتوعيةِ المجتمعِ بأحكامِ دينِه، وفقهِ شريعته، فعمِل على بعض الكتب إمّا تأليفًا، أو إشرافًا على ترجمته، وتصحيحًا ومراجعةً لها مثل: مسائل الزكاة والصوم (الجمع والترتیب، والترجمة الأردية)، وأركان الإسلام (بالعربية)، ومسائل الحج والعمرۃ (الجمع والترتیب، والترجمة الأردية)، وفتاوی العلامة عبد العزيز بن باز (بالعربية)، وفتاوی العلامة عبد العزيز بن باز (بالأردية)، ومِشعلِ راہ (الترجمة الأردية)، والعلاجُ بالرقيةِ الشرعيةِ من السِّحرِ والمَسِّ والعَينِ.
وكان الوالد العلّامة مُحبًّا للسنّةِ، ومُعتزّا بها للغاية، وشديدَ الغيرةِ عليها، والدِّفاعِ عنها، وممّا يدلُّ على ذلك أنه آثر أن يكون عنوانُ رسالتِه في الماجستير ” مكانة السُّنةِ وحجيتها في التشريع الإسلامي "، وفي الدكتوراه ” اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا، والرد على شبه المستشرقين وأتباعِهم "، وساهم بذلك في تبيين مكانة السنة، وحجيتها، والذود عن حياضها، ودحض مزاعم المستشرقين وشبههم مساهمة طيبة، ونالت رسالتاه قبولًا واسِعًا، وصارتا مرجعًا للباحثين، ومقصدًا للدارسين في الدراسات العليا في الجامعات العربية وغيرها.
وكان الوالد العلّامة مدركًا لأهميةِ وجُودِ المكتبةِ في المدارسِ والجامعات، ولِمَا لهَا من دَورٍ بارزٍ في خَلْقِ الجَوِّ العلمي، ورفعِ مستوى الأساتذةِ والطّلابِ، وتوسيع مداركهم، وتنويعِ ثقافتهم، ونبوغهم في العلوم والفنون، فكان يهتم بالمكتبة المركزية للجامعة في صور شتى من إرسالِ آلافِ الكُتبِ لَهَا سَنَوِيّا في مُختلفِ العلومِ والفُنونِ من المملكة، وتطويرِ برامِجِها، ودَعْمِها بتَقنياتٍ حديثةٍ، وجَعْلِها وَفقَ معاييرَ عاليةٍ، وكان انتقاءُه للكتبِ يدُلُّ على سِعةِ نَظْرِه، وتَنُوعِ ثقافتِه، وسُموِّ ذَوقِه، وحُسنِ اختيارِه، واطِّلاعِه على ما استجدَّ في السُّوقِ، ووقُوفِه على إصداراتٍ حديثةٍ، وطبعاتٍ مُتقَنَةٍ، وبذلِ الوقت والجُهد فيه بكل صبرٍ وأناةٍ.
وممَّا يدُلّ على مزيدِ اهتمامِه بالمكتبة، ورغبته الشديدة في إثراءِهَا بنواحي شتّى وبِكُلِّ أنواعِ المعرفة أنَّه سافرَ إلى باكستان، واشترى أجودَ وأنفَسَ ما في خزائنِ مكتباتها من الكتبِ الأدبيةِ، والدينيةِ، والتّاريخيةِ ونحوها باللغة الأردية، فصارت المكتبة من أغنى المكتباتِ وأثراها بالكتب العربية والأردية في جميع العلوم والفنون.
وكان رجلًا ألمعيّا، بعيد النظر، ومُحكَمِ التَّخطيطِ في أعماله وأهدافه، وكُل من رأي جامعةَ الإمام ابن تيمية ومبانيها الشاهقةَ، وجَمالَ ترتيبها لَظنَّ أنَّ كُلَّ ذلك مدروس ومخطَّطٌ في وقتٍ واحدٍ، مع أنَّ بينها فُروقًا زمنيَّةَ كبيرةً.
وكان الوالد العلّامة صُلْبًا في السُّنةِ، وكان يفتخر ويعتزُّ بالانتماء إلى أئمة أهل السُّنةِ وأعلامِهم، فقد سمّى جامعتَه الغرّاء باسم شيخ الإسلام ابن تيمية، وسمّى مركزَ التأليف والترجمة باسم شيخه ومُرشدِه إمام أهل السّنة عبد العزيز بن باز، وسمّى قاعةَ المحاضرات في الجامعة باسم شيخه محدّث العصر الإمام الألباني -رحمهم الله جميعًا-.
وكان مُعجَبًا بشخصيةِ إمام الهند مولانا أبي الكلام آزاد جدًا، وكان يُشيدُ بِذِكرِه، ويتغنّى بشأنه في أكثرِ المجالسِ والمحافلِ، ومِن هُنا سَمّى المكتبةَ المركزيَّةَ للجامعة باسمِه، إعلاءً لشأنِه، وتخليدًا لذِكْرِه.
وكان الوالد العلّامة مثالًا رائعًا في الدِّينِ والخُلُقِ، والورعِ والتقوى، والمحافظة على الصلوات، وكان بَشُوشًا، خفيفَ الرُّوحِ، ظريفًا، فَكِهًا، عَذْبَ اللَّسان، وكانت مجالسُه مليئةً بالعلمِ والأدبِ والفُكاهةِ، يعرف عنه ذلك كُلُّ من جَلَس عِندَه، واستمَع إليه، وكانت علاقاته مع الدارسين في جامعته والمتخرجين فيها كالأب الشفيق مع أبناءه الأوفياء، وكان يُحِبُّهم جِدًا، ويعتبرهم أبناءً لَه، وكان يَحثُّهم دائمًا على الاجتهادِ في الدِّراسةِ، والإخلاصِ، وطلب المعالي في الدنيا والآخرة، وإذا رأى في أحدٍ خيرًا شجّعَه، وأثني عليه بكلماتٍ عاطرةٍ.
وكان جريئًا ومِقدامًا، وشجاعًا، لا يهابُ أحدًا، قوَّالًا بالحقِّ لا يخافُ فيه لومةَ لائمٍ.
وكان يعرِف قدْرَ نفسِه، ولِمَا وَهَبَه اللهُ من حِدَّةِ ذكاءٍ، وسُرعةِ فهمٍ، ورسوخِ علمٍ، فكان يريد أن يُسخِّرَ كُلَّ ذلك في خدمة الإسلام والمسلمين، ووُفِّق في ذلك أيما توفيقٍ، وذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه من يشاء.
فرحم الله شيخَنا ومُربِّينَا، وغفرَ له، وتجاوَزَ عنه، وأسْكَنَه فسيحَ جَنَّاتِه مع النَّبيين، والصِدّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ.
فها هي نبذةٌ من جهوده العظيمةِ وإسهاماته المُشْرِقةِ في خدمة الكتاب والسنة، وتعليم أبناء الأمَّة، وأعترف بأن قلمي عاجِزٌ عن الإحاطة بجميع جوانب حياته المليئة بالأعمالِ الجليلةِ والإنجازاتِ العظيمة، وإنّي على يقينٍ أنَّه ستكتب عنه صحائفُ وتُؤلَّفُ كتبٌ عن حياتِه ودعوتِه وجهادِه.

ليست هناك تعليقات: