الأربعاء، مارس 11، 2020

والدنا العطوف الحنون يُذكر إلى الأبد.


 جمال الدين جلال الدين التيمي. 
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

قد اطلعت على وفاة والدنا العلامة الدكتور محمد لقمان السلفى رحمه الله رحمة واسعة في الساعة الواحدة وعشرين دقيقة ظهرا من ٢٠٢٠/٠٣/٠٥م ،فوقع الخبر علي كالصاعقة التي أطارت لبي وجعلتني أعمى أجد أمامي الظلام الحالك ولا أبصر شيئا، وأخرس لا أسمع شيئا، وأغمي علي تماما وصرت جسما جامدا لا حراك لي، وبعد أن أفقت شيئا أرسلت الخبر إلى بعض أصحابي فصدّقوه، وفتحت فيسبوك فوجدت الأخبار المتوالية المتدفقة من محبيه فتيقنت أن والدنا العطوف تركَنا يتامى وتائهين في ظلام هذه الدنيا وانتقل إلى جوار رحمة الله، رحمه الله رحمة واسعة. 
ماذا أكتب من صفاته المتعددة؟ وماذا أذكر من أخلاقه الكريمة وخصاله الحسنة؟ وماذا أعد من إنجازاته المتنوعة وإسهاماته المختلفة؟ هل أحد من الكتّاب يستطيع أن يستوعب مساعيه العظيمة وجهوده الجبارة في كتاب ضخيم؟ كلا!! فما بال هذه العجالة؟ لأن حياته ماكانت منحصرة بجانب، بل كانت متعددة الأطراف والجوانب، ففي وقت واحد كان أديبا ماهرا، وفقيها باهرا، وخطيبا مصقعا، ومحدثا عظيما، ومفسرا متقنا، وكان متجلدا وقنوعا، وشفيقا وعطوفا، وكريما وحنونا، فهو لا يذكر إلا بالجميل ويكرر الخلف في شأنه هذا البيت الأنيق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم   إذا جمعتنا يا جرير المجامع. 
 *فوالدنا العطوف يُذكر إلى الأبد* لأنه كان متصفا بصفات كريمة ومتحليا بخصال حسنة، فكان متواضعا يخفض جناح الذل لأولاده وعلمائه ولطلبة العلم ولجميع الناس، فلم يقرب إليه قط أي فخر وغرور مع ما حصل ما حصل من الشرف والمجد، ومع ما حظي بهذه المرتبة العليا، ومع ما أُعطي هذه الأموال الطائلة والثروات الحافلة، وكان صابرا ومتجلدا في سبيل إدراكه هذا الفوز والفلاح فلا تعب ولا كسل حتى بلغ ما بلغ من هذا الفوز العظيم والفلاح الجليل الذي لا يمكن لأحد أن يناله إلا يتمناه،وكان حازما متقنا في أعماله، فيقوم بأعماله بالدقة والروية والتثبت والتأني،وكان بحرا في العطاء والسخاء يبعثر اللآلي لذوي الحاجات، فكم من بيوت بناها للفقراء، وكم من يتامى تكفل بكفالاتهم وكم من أموال طائلة أنفقها للمساكين، وكان مصباحا لامعا وسراجا منيرا يهتدي به الناس ليلا ونهارا، يصدق عليه قول من قال:
أغر أبلج تأتم الهداة به    كأنه علم في رأسه نار. 
 *ويُذكر إلى الأبد* لأنه كان مستغلا بأوقاته، فلم يضيّع من أوقاته حتى ثانية من الثواني، كان حريصا على العمل ونشيطا فيه، فهل تظنون أنه بلغ إلى هذا المرام السامي بغير استغلاله الوقت؟ وهل ترون أنه ترك هذا التراث العظيم المذكور إلى قيام الساعة بغير أن يكب على العمل ويلم به؟ كلا!! بل سهر الليالي وتجافى عن المضاجع ووحّد الليل والنهار ثم أنجز هذه الأماني العليا التي لا يدركها إلا من منّ الله عليه بفضله وكرمه،ونحن التيميون لن ننس دروسه القيمة بعد كل فجر في المسجد الجامع لجامعتنا وبعد العصر أو غير ذالك في مسجد جندنباره، فهذه الدروس عند رحلاته إلى جامعته العزيزة ما هي إلا تشير إلى استغلاله الوقت، فكأنه لا يريد تضييع أية دقيقة من أوقاته حتى في رحلاته إلى مكان ما، وهذا مثال واحد، وغيره كثير لا يحصى ولا يعد، وأيضاً يتضح استغلاله الوقت بشعره الجميل الذي كان يكرره في أكثر المجالس:
(مری زندگی ایک مسلسل سفر ہے   جو کسی منزل پہ پہنچی تو منزل بڑھا دی).
 *ويُذكر إلى الأبد لأنه* أسس جامعة الإمام ابن تيمية وأحسن إدارتها وبلّغها إلى هذا الرقي والازدهار الذي يشهده العالم اليوم والذي نشاهده بأم أعيننا، فالجامعة أخذت الشهرة العالمية في وقت قليل من تأسيسها، و إلى الآن تخرج فيها مئون من طلبة العلم واشتغلوا بوظائفهم في أنحاء العالم كمدرسين في المدارس والجامعات، ومؤظفين في الشركات، ومصنفين ومؤلفين في مراكز التأليفات، ودعاة في الحفلات والندوات، وأسس كلية خديجة الكبرى لتعليم البنات، ففيها أيضا يتخرج عدد كبير من الطالبات كل عام ويقمن بدعوة الناشئات المسلمات والإقماع عن الفواحش والمنكرات من المجتمعات، وأقام المكتبة المركزية في الجامعة ووفّر لها الكتب من جميع الفنون حتى منح لها المركز الثاني من مكتبات الولاية، فلا يتخرج متخرج في الجامعة ولا تتخرج متخرجة في الكلية ولا يُقرأ أي كتاب من المكتبة إلا يكون له صدقة جارية بإذن الله. 
 *ويُذكر إلى الأبد لأنه* صنف تصانيف متنوعة وألف تآليف مختلفةً رغم أشغاله المتعددة الأطراف من الدعوة والتبليغ وإدارة الجامعة والتدريس، فألّف خادما للقرآن الكريم ومشعرا بأهمية تعليمه " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" وكتب عدة كتب خادما للسنة النبوية فكتب" مكانة السنة في التشريع الإسلامي ودحض مزاعم المنكرين والملحدين" وأيضا كتب للدفاع عن منكري الحديث " اهتمام المحدثين بنقد السند والمتن ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم" و" تحفة الكرام شرح بلوغ المرام " و" رش البرد شرح الأدب المفرد" وألّف شافيا غلائل عطاش السيرة النبوية" الصادق الأمين " و" سيد المرسلين " وصنّف لملء خلاء الأدب العربي " السلسلة الذهبية للقراءة العربية " اثنتي عشرة جزءا، وفي الفقه ألّف" السعي الحثيث إلى فقه أهل الحديث" فبهذه الكتب القيمة يكون اسمه باقيا إلى يوم الساعة قال القائل:
أخو العلم حي خالد بعد موته    وأوصاله تحت التراب رميم. 
 *ويُذكر رحمه الله إلى الأبد* لأنه كان سلفيا ينهج نهج السلف ويحذو حذوهم، وكان شديدا في هذه المنهجية السلفية ومتمسكا بها، ما حاد عنها قيد أنمولة في دعوته وتصنيفه وتأليفه، بل أفنى حياته كلها في الدعوة إليها ونشرها في عامة الناس، وكان يفتخر بها ويذكرها في شأنه ويكررها مرارا وتكرارا في دروسه وخطبه وجميع كلامه لما لها أهمية كبرى إذ هي سبب نجاة المؤمن فلا ينجو إلا من سار بسيرة السلف الصالح في جميع جوانب حياته، فلذا كان علاّمتنا تمسك بها تمسكا حتى لبّى إلى نداء ربه. 
فوالدنا العطوف الحنون فوق ما يكتب أي كاتب ولو كتب مجلدات في حياته، لا ببلغ مبلغه ولا يمكن أن يجمع جميع ما اتصفه العلامة من أخلاق كريمة وما أنجزه من أسهامات رفيعة. 
أدعو الله أن يغفر له ويرحمه ويرفع درجاته ويدخله فسيح جناته ويسكنه في العليين ويحشره مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. 
آمين يارب العالمين.

هناك تعليق واحد:

أبو احمد التيمي يقول...

الاخ الكاتب جمال جدير بالتشجيع علي حسن التعبير والبيان في كتابة الموضوع "والدنا العطوف الحنون يذكر الي الابد"
وأدي حق الموضوع باختيار الالفاظ السهلة والاسلوب السلس. وارجو منه استمرار الكتابة في شتي الموضوعات ليعم النفع. اللهم بارك في علمه. امين.