الجمعة، مارس 06، 2020

وفاة العلامة الدكتور محمد لقمان السلفي، مؤسس ورئيس جامعة ابن تيمية الشهيرة- رحمه الله تعالى رحمة واسعة


وما كان قيس هلكه هلك واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

توفي اليوم 10/7/1441هـ-5/3/2020م العلامة الدكتور محمد لقمان السلفي-رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

نزل عليَّ اليوم نبأ وفاة العلامة الدكتور محمد لقمان السلفي كالفاجعة التي هزَّت أركاني، وتركتني جامداً واجماً، وملأت جوانحي لوعة وأسى، وذهبت بلبي حزناً وكمداً، وجالت بنفسي حيرة واضطراباً، ولكن الإيمان بالله تعالى والرضاء بقضائه وقدره هو بلسم ناجع للجراح والقروح، وشفاء لما في الصدور، فوقْع موته كان خفيفاً، لو كان يمثل ذاته فحسب؛ جاء وذهب، وإنما كان -حقيقة- بنيان قوم قد تهدَّم، فلا تسأل عن شدة وقعه عليهم وفزعهم، وعن مقدار وجعهم وألمهم.

كان الشيخ عالماً متفنناً، ضرب بسهمه في فنون مختلفة؛ يعرف عنه ذلك من جلس إليه واستمع إلى حديثه في الموضوعات العلمية، وقرأ مؤلفاته في التخصصات المتنوعة؛ حيث ألَّف في التفسير، والحديث، والفقه، والسيرة، والأدب، وكتب مقالات وبحوثاً ونشرها في المجلات العلمية، وفي ذلك كله قد نال قبولاً وتقديراً من العلماء وطلبة العلم، فاستحق بجدارة لقب "العلامة"، وبه عرف.
كان الشيخ عالماً غيوراً على دينه، متمسكاً بمنهجه السلفي في العقيدة والمذهب والفكر، معتزاً بعقيدته السلفية منافحاً عنها في حديثه وتأليفه؛ اختار "السلفي" لقباً له، كأنه لقب عائلي يحمله اللاحق عن السابق عند التمايز بالأنساب، وإن زرت بيته بالرياض، وجدت على واجهته لوحة تعرِّفُك باسم صاحبه وعقيدته ومنهجه، إذ نقش فيها "محمد لقمان السلفي"، وهذا نادر عند العلماء أصحاب المنهج السلفي هنا.

كان الشيخ عالماً يعرف نفسه، ويثق بعلمه، ويعتمد على كفاءاته، لم يكن يخاف في البوح بهذه الثقة والاعتماد لومة لائم، ولم يعترض لسانه أو قلمه تلعثمٌ وإرتاج، ولم يكن يرى نفسه بين أقرانه أقل منهم شأناً، وأنزل رتبة، فكان طويل القامة بينهم بعلمه، بارز الشخصية بين أصحابه بعمله وسعة معارفه.

كان الشيخ عالماً وقوراً، حازماً، ذا أناة وعزيمة، لا يطلب من الأمور إلا معاليها، ويبتعد عن سفاسفها، أخذ نفسه بالجد والحزم، وبلغ على مطيتهما ما تخلف عنه أقرانه بمراحل؛ استثمر حياته واستغل ساعاتها في إنجاز أعمال جليلة وتنفيذ مشاريع عظيمة، يملأ حجمها وسعتها عيون الناظرين بالانبهار والإعجاب والحيرة، وتدرك بذلك أنه اغنتم ما وهبه الله تعالى من ساعات ولحظات فيما يعود على نفسه وعلى قومه بالنفع، ولم يضيع منها شيئاً، كما تدرك أنه لم ينشغل مدى حياته بملاهي الدنيا ومزالقها، وإنما سلك طريق من لا تترك له طموحاته وعزائمه فرصة الانشغال بها أو الالتفات إليها، بل تضع نصب عينيه غايته التي لا يريد أن يقف دونها، ولا يبغي سواها.

كان الشيخ ذا همة عالية، مفعماً بالنشاط والحيوية والحركة، عاش-فيما أرى- منذ بلغ الرشد حتى مرض موته الذي أذهب عنه وعيه حياةَ شابٍّ قوي البنية سليم الجسم نشيط الحركة؛ لم يجعل الشيخوخة يوماً لتترك عليه أثرها أو تأخذ به مهيعها، وقد يسَّر الله لي الاجتماع به أو الاستماع إليه أربع مرات، وفي كل مرة وجدتني أتحدث إلى عالم مفعم بالشباب في طموحه وهمومه وإراداته وحتى نبرة صوته، يريد أن يواصل الحياة ويعيشها عيشة هادفة، لا إلى عالم أصابته شيخوخة، فأنهكته، ويريد أن يتقاعد عن مناشط الحياة.
كان الشيخ عالماً عصاميا، لا عظاميا، حيث بلغ ما بلغه، وشاد ما شاده، وحقَّق ما حقَّقه بجهده وعمله ومعداته بعد فضل الله تعالى وعونه وكرمه، لا بما ورثه عن آبائه، فمن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه، وكان الشيخ نموذجاً حيًّا لهذه الحكمة النبوية، فلعل عجبك لا ينقضي إذا عرفت أن المدينة الجامعية التي تحتضن معاهد وكليات ومرافق حياة مختلفة إنما بناها الشيخ في قرية نائية من ولاية "بهار"، وإن رأيتها يوماً، بهرك مرآها، وأعجبتك مبانيها العظيمة التي ترامت خيوطها في انتظام وتساوق، ولا ترى مثيلها إلا في المدن الكبرى، فيا ترى! هل خطر على قلب أحد من آبائه أو من سكان المنطقة فكرتها أو حتى تصورها؟!

كان الشيخ قنوعاً في حياته، مقتصداً في نفقاته ومصاريفه، بين قتور وإسراف، لم يعرف الإسراف والبذخ والترف إلى حياته سبيلاً، ومع أن الله منَّ عليه بالوظيفة الدارَّة للأموال وغيرها من الموارد المالية، عاش على قصد وكفاف بعيداً عن الإسراف والتبذير، وأنا-شخصياً- شاهدت ذلك في مأدبته التي تشرفت بحضورها مرتين، وهذا يدل على عفته ونزاهته- والله تعالى أعلم- تجاه الأموال التي كانت تأتيه كتبرعات لمشاريع جامعته. 

فالشيخ العلامة هو نموذج رائع ومثال عظيم للعالم الرباني الناصح الذي يقدم لقومه ما يخلد ذكره في الدنيا، ويكون ذخراً له في الآخرة، فأسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويقبل حسناته، ويتجاوز عن سيئاته، ويفسح له في قبره، وينور له فيه، ويدخله فسيح جناته، ويعيذه من عذاب القبر وعذاب النار، ويزرق أهله وذويه وأصدقاءه ومحبيه وتلامذته الصبر والسلوان ويوفقهم للاقتداء به في كل ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب.  

د. حشر الدين عبد الشهيد
مكة المكرمة

ليست هناك تعليقات: