الاثنين، أبريل 01، 2013

بيان وهم من زعم أن ابن الجوزي أورد حديثا في موضوعاته، وهو في بعض روايات صحيح البخاري


بسم الله الرحمن الرحيم
بيان وهم من زعم أن ابن الجوزي أورد حديثا في موضوعاته، وهو في بعض روايات صحيح البخاري
إعداد: محمد يوسف حافظ أبو طلحة
هذا الموضوع قد تناوله الإخوان الأفاضل في ملتقى أهل الحديث، لكني توصلت إلى نتيجة معينة، فأحببت أن أعرضها على المتخصصين في الحديث النبوي وعلومه رجاء أن يتحفوا بملاحظاتهم البناءة بأسلوب علمي متين. فأقول مستعينا بالله:
قال ابن الجوزي في الموضوعات (2/88):
"باب كراهية ادخار الرزق
روى ابن عمر أن النبي r قال: «كيف بك يا ابن عمر إذا عمرت في قوم يخبؤون رزق سنتهم؟».
قال النسائي: هذا حديث موضوع". انتهى كلام ابن الجوزي.
قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة بعد نقل كلام ابن الجوزي المذكور بنصه: "قلت: هذا أخرجه البخاري في صحيحه في رواية حماد بن شاكر، (فقال: حدثنا حامد بن عمر، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عاصم بن محمد، حدثنا واقد –يعني أخاه-، عن أبيه –يعني محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر-، عن ابن عمر أو ابن عمرو قال: شبك النبي r أصابعه.
قال البخاري: وقال عاصم بن علي: حدثنا عاصم بن محمد: سمعت هذا الحديث من أبي، فلم أحفظه، فقومه لي واقد، سمعت أبي يقول: قال عبد الله: قال رسول الله r: «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس» الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: وقع هذا الحديث في رواية حماد بن شاكر، وليس هو في أكثر الروايات، ولا استخرجه الإسماعيلي، ولا أبو نعيم، بل ذكره أبو مسعود في الأطراف، وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود)". انتهى كلام السيوطي.
قلت: قول السيوطي بهذا التمام لا يوجد في مطبوعة اللآلئ المصنوعة وأكثر نسخه الخطية، وإنما يوجد في نسخة سوهاج المقروءة على المؤلف بخط جرامرد الناصري تلميذ المصنف، وتاريخ نسخها 910ﻫ، والمؤلف توفي سنة 911ﻫ.
وهذا الحديث الذي عزاه السيوطي للبخاري هو في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (1/731-732 رقم 478، و479، و480).
ولم يسق البخاري لفظه كاملا، وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين (2/278 ح 1435) تحت أفراد البخاري، وزاد في ألفاظه، فإنه قال: "الخامس والعشرون عن واقد بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر -أو ابن عمرو- قال: شبك النبي r أصابعه، وقال: كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا» قال: فكيف يا رسول الله؟ قال: «تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم. هكذا في حديث بشر بن المفضل عن واقد.
وفي حديث عاصم بن محمد بن زيد قال: سمعت هذا من أبي، فلم أحفظه، فقومه لي واقدٌ عن أبيه قال: سمعت أبي وهو يقول: قال عبد الله: قال رسول الله r: «يا عبد الله بن عمرو، كيف أنت إذا بقيت وذكره.
وليس هذا الحديث في أكثر النسخ، وإنما حكى أبو مسعود أنه رآه في كتاب أبي رميح عن الفربري وحماد بن شاكر عن البخاري". اﻫ من الجمع بين الصحيحين.
وحديث عاسم بن علي الذي علقه البخاري وصله إبراهيم الحربي، قال ابن حجر في تغليق التعليق (2/245): "وقد رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث له قال: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا عاصم ابن محمد، عن واقد، سمعت أبي يقول: قال عبد الله: قال رسول الله r: «كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم».
ثم أسند ابن حجر من طريق الخطيب قال: أخبرنا أبو الحسين بن رزق، أخبرنا أبو عمرو بن الساك، أخبرنا حنبل بن إسحاق، حدثنا عاصم بن علي فذكره مثل ما ساقه البخاري، وقال بعد قوله: «في حثالة من الناس»: «قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه. قال: كيف تأمرني يا رسول الله؟ قال: «تأخذ بما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وغوغائهم». اﻫ من تغليق التعليق.
وهذا الحديث الذي سقت لفظه نبه أهل العلم على أنه لا يوجد في أكثر نسخ صحيح البخاري، إنما يوجد في رواية حماد بن شاكر. منهم أبو مسعود الدمشقي، والحميدي، وابن الأثير، والمزي، وابن حجر، والعيني، والقسطلاني. (انظر: الجمع بين الصحيحين 2/278 ح 1435، وجامع الأصول 10/5-6، وتحفة الأشراف 6/41 ح 7428، وبهامشه النكت الظراف، وفتح الباري 1/732، وعمدة القاري 4/382، وإرشاد الساري 1/460).
وهذا اللفظ الذي ساقوه ليس في شيء منه ما يتعلق بتخبئة الرزق، وإنما يتعلق باختلاط العهود والأمانات وضياعها، وابن الجوزي كان على علم بأن هذا الحديث يوجد في صحيح البخاري، فقد شرحه في كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/581)،
ولكن ما يتعلق بتخبئة الرزق –الذي ساقه ابن الجوزي- جاء في رواية أحد المتروكين المتهمين في أثناء قصة طويلة.
فقد أخرج عبد بن حميد (2/44 ح 814) –ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (4/127)- قال: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا أبو العطوف الجراح بن منهال الجزري، عن الزهري، عن رجل، عن ابن عمر قال: خرجت مع النبي r حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: «يا ابن عمر، ما لك لا تأكل؟» قال: قلت: يا رسول الله، لا أشتهيه. قال: «لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبؤون رزق سنتهم، وبضعف اليقين». فوالله ما برحنا ولا أرمنا حتى نزلت ﴿ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ     ﮣ   ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧﮨ  ﮩ  ﮪ  ﮫ  ﮬ [سورة العنكبوت 60] فقال رسول الله r: «إن الله عز وجل لم يأمرني بكنْز الدنيا ولا اتباع الشهوات، فمن كنَز دنيا يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنِز دينارا ولا درهما، ولا أخبأ رزقا لغد».
وأخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع (ص 183-184ح 307)، وابن أبي حاتم في تفسيره –كما في تفسير ابن كثير (3/552-553)-، وأبو الشيخ في أخلاق النبي r (4/233 ح 879) –ومن طريقه الواحدي في التفسير الوسيط (3/425)، وأسباب النّزول (ص 358)-، وابن عساكر في تاريخ دمشق (4/127) كلهم من طريق يزيد بن هارون به. لكن عند الواحدي وأبي الشيخ: "عن عطاء" بدل: "عن رجل".
وأخرجه البغوي في تفسيره (6/253)، والثعلبي (7/288-289) من طريق إسماعيل بن زرارة الرقي-، وابن عساكر في تاريخه (4/128) من طريق عمار بن عبد الجبار-، كلاهما عن الجراح بن منهال، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر نحوه.
وآفة هذا الإسناد أبو العطوف الجراح بن منهال الجزري؛ فإنه متروك متهم، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أيضا: ليس بثقة. وقال ابن المديني: ضعيف لا يكتب حديثه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: رجل سوء يشرب الخمر، ويكذب في الحديث. وقال الدارقطني: فيه خلاعة، متروك. (انظر: تاريخ الدوري 4/467، ومن كلام أبي زكريا في الرجال رواية الدقاق ص 37، والتاريخ الكبير 2/228، وكنى مسلم 1/660، والجرح والتعديل 2/523، وضعفاء النسائي ص 73، والمجروحين 1/259، والكامل 2/160-161، وضعفاء الدارقطني ص 174، ولسان الميزان 2/426-427).
وشيخه الزهري في هذا الإسناد هو عبد الرحمن بن عطاف، كما قال أبو الشيخ. والواحدي، ولم أر من تكلم فيه بجرح أو تعديل إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته (7/70)، ولذا قال ابن حجر في التقريب (ص 591): "مقبول" أي عند المتابعة. ولم يتابع هنا.
تنبيه: قول أبي ألشيخ أن الزهري هذا هو عبد الرحمن بن عطاف، ذكره المحقق في الحاشية.
وأعله بعض أهل العلم بمخالفته للحديث الصحيح، قال القرطبي في تفسيره (16/384): "وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم، اتفق عليه البخاري ومسلم. وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة، وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين".اﻫ.
وقال الشوكاني في فتح القدير (4/280): "وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي r، فقد كان يعطي نساءه قوت العام، كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة". اﻫ.
قلت: يشيرون إلى ما أخرجه البخاري (5357، و4885)، ومسلم (4550) من حديث عمر بن الخطاب أن النبي r كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم. واللفظ للبخاري.
الحاصل أن ابن الجوزي أورد في باب كراهية ادخار الرزق من الموضوعات (3/88) حديث ابن عمر أن النبي r قال له: «كيف بك يا ابن عمر إذا غبرت في قوم يخبؤون رزق سنتهم». وهذا اللفظ ليس في صحيح البخاري لا في رواية حماد بن شاكر ولا غيره، وإنما ورد عند غبد بن حميد وغيره في رواية الجراح بن منهال، عن الزهري، عن رجل، عن ابن عمر. والجراح متروك متهم، كما تقدم تقريره، وعدم ذكر ابن الجوزي سنده وعلته زاد الأمر إشكالا.
والسيوطي اعتمد على الديلمي في دعواه أن الحديث الذي أورده ابن الجوزي في الموضوعات هو في صحيح البخاري؛ فإنه صرح في النكت البديعات (ص 212) بالنقل منه، فأنقل هنا كلام الديلمي بنصه.
قال في مسند الفردوس (2/22/ب): "كيف بك يا ابن عمر إذا عُمِّرت في حثالة من الناس يخبؤون رزق سنة ويضعف اليقين». الحثالة الرذالة. قال البخاري –رحمه الله- في كتاب الصلاة-: حدثنا حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل، عن واقد بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله r الحديث. قال ابن عمر: شبك النبي عليه السلام أصابعه، وقال: «كيف بك؟» قال: ونزل هذه الآية ﴿ﮟ  ﮠ  ﮡ  ﮢ     ﮣ   ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧﮨ  ﮩ  ﮪ  ﮫ  ﮬ انتهى كلام الديلمي بنصه.
والديلمي هو شهردار بن شيرويه بن شهردار بن شيرويه الهمذاني، ألف والده شيرويه فردوس الأخبار، ذكر فيه الأحاديث دون سند، فأسند ابنه شهردار كتاب والده، فاللفظ المذكور أولا كان دون سند في كتاب الفردوس، فذكر الابن سنده من صحيح البخاري، ولم يسق لفظه بنصه، وذكر فيه نزول الآية، وذكرُ نزول الآية لا يوجد إلا في رواية الجراح بن المنهال المتقدم ذكرها، فالظاهر أنه لفق بين رواية صحيح البخاري وبين رواية أخرى؛ فإن هذا السياق الذي ذكره شهردار الديلمي لا يوجد في نسخ البخاري، ولم يذكره شراحه كابن حجر والعيني والقسطلاني، ولا ذكره من ألف في الجمع بين الكتب كالحميدي وابن الأثير.
وبهذا يتبين أنه لا يوجد في كتاب الموضوعات لابن الجوزي حديث حكَم عليه بالوضع، وهو في صحيح البخاري.
ثم وقفت على كلام لابن حجر فازددت اطمئنانا وانشراحا؛ فإنه قال في القول المسدد (ص 37) في أثناء كلامه على حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم: «إن طالت بك مدة أوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله...» قال: "ولم أقف في كتاب الموضوعات لابن الجوزي على شيء حكم عليه بالوضع وهو في أحد الصحيحين غير هذا الحديث".اﻫ.
وهذا البحث أصله تعليقات علقتها على كتاب اللآلئ المصنوعة الذي تقدمت به لنيل درجة الدكتوراه في 05/03/1433ﻫ بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ونوقشت الرسالة في 16/03/1434ﻫ، وأجيزت بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. يسر الله طبعها.
ولشيخنا الفاضل الدكتور عبد الباري ابن المحدث حماد الأنصاري –حفظه الله- بحث مفرد حول هذا الحديث تحت الطبع، لم أره، لكن لما ذكرت للشيخ النتيجة النهائية التي توصلت إليها وافقني عليها. وبالله التوفيق.   

هناك تعليقان (2):

Sanaullah Sadique Taimi يقول...

ما شاءالله بارك الله في جهدكم

Safat Alam Taimi يقول...

نفع الله بكم وبارك الله فيكم يا دكتور محمد يوسف طلحة التيمي كما نرجو من فضيلتكم إتحافنا بمثل هذه التحقيقات الثمينة مستقبلا وجزيتم خيرا