السبت، يوليو 17، 2010

إسعاف الأحبة والخلان بحكم إحياء ليلة النصف من شعبان

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد ...
فلقد بعث الله رسوله محمداً  على حين فترة من الرسل،وفي جاهلية لا تعرف من الحق رسماً،ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً، بل كانوا ينتحلون ما تهواه نفوسهم،ويدينون ما تزينه لهم شياطينهم، وما ألفوا عليها آباءهم،فجاهدهم به حق جهاده،وجادلهم باللين والحكمة،وقارعهم بالسنان والحجة،ردعاً إلى التوحيد وإخلاص العبادة ونبذ الشرك لتحقيق قوله تعالى  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون  [ الذاريات: 56].
ولم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل الله لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته ورضي لها الإسلام ديناً، قال تعالى  اليوم أكملت عليكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً  [المائدة:3]،( ) فمادام أن الدين كامل غني عن الزيادة والنقص،صالح لكل زمان ومكان ولكل عصر ومصر،فلا حاجة إذن لإحداث البدع والمحدثات في الدين والتقرب بذلك إلى رب العالمين،ومن أحدث فقد أتى بشرع زائد واتهم الشريعة بالنقص،وكأنه استدرك على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله، وكفى بذلك قبحاً( ).
وقد حث النبي  أمته على التمسك بسنته  وحذرها من الإحداث في دينها،فقال"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "( ) وقال  " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ( ).ولا شيء أفسد للدين وأشد تقويضاً لبنيانه من البدع والمحدثات فهي تسري في كيانه سريان النار في الهشيم،وهي بريد الشرك والموصلة إليه.
ومن المؤسف أن عامة الناس أصبحوا يعدونها أموراً مشروعة يجب المحافظة عليها مع إضاعتهم لكثير من السنن المشروعة.
وبم أن التمسك بالسنة ولزومها والتحذير من البدع ومحاربتها واجب باتفاق المسلمين ( )، فقد توخيت أن أبحث في هذه العجالة " حكم إحياء ليلة النصف من شعبان ".
ومما لاشك فيه أن إحياء هذه الليلة [ ليلة النصف من شعبان ] بأي نوع من العبادة من الصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن بدعة محدثة، وبه قال جماهير أهل العلم منهم عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة،ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة،وهو قول أصحاب مالك وغيرهم ( ).
وبيان ذلك أن الاحتفاء بليلة النصف من شعبان لم يصح فيها دليل صريح صحيح على فضلها ولا على فضل الصلاة والذكر وتلاوة القرآن فيها، والأصل في العبادات التوقيف حتى يرد الدليل على مشروعيتها ، فلا يزاد فيها ولا ينقص.
و أما ما يفعله بعض الناس في هذا الزمان من الاحتفال بهذه الليلة والصلاة فيها والاهتمام بالأوراد والأذكار وتلاوة القرآن فيها فلا شك أن هذا عمل غير صحيح،بل هو منكر، يجب تحذير الناس من ذلك،ولاسيما وأن هناك كتباً ومنشورات توزَّع لنصرة الباطل وإشهاره.
و أما ما يحتجون به على عملهم فهي كما يلي:
أولاً: أنه قد رُوِي عن بعض التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر أنهم كانوا يعظمونها ويجتهدون فيها بالعبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها. ( ).
والجواب:(1) أن من نقل فضل هذه الليلة، منهم من بيَّن كراهة إحياءها بالاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء والذكر وغير ذلك (8).
(2) أن الحافظ ابن رجب هو الذي نقل تفضيل بعض التابعين لهذه الليلة وإحياؤهم لها في المساجد، وذكر أن مستندهم في ذلك آثار إسرائيلية ( ) فمتى كانت الآثار الإسرائيلية مستنداً ( ) وعمل التابعي أيضاً ليس بحجة ( )
ثانياًً: الأحاديث الواردة في فضلها ، ومنها:
(1) عن عائشة ا مرفوعاً " إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " ( ).
(2) عن أبي موسى  قال: قال رسول الله  "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " ( ).
(3) عن علي بن أبي طالب  قال: قال رسول الله  " إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر فأغفر له ألا من مسترزق فأرزقه ألا من مبتلى فأعافيه ألا كذا حتى يطلع الفجر" ( ).
والجواب: أن هذه الأحاديث وما ورد في فضل هذه الليلة كلها ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، فضلاً عن أن الأحاديث الواردة في فضل الصلاة فيها موضوعة مختلقة.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله " وقد ورد في فضلها – ليلة النصف من شعبان- أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها ، وأما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم " ( ).
وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال:"ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها " ( ).
وقال ابن العربي:" وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها "( ).
وقال العقيلي:" في النزول في ليلة النصف من شعبان أحاديث فيها لين " ( ).
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية : " وقد روى الناسُ الأغفال ُ في صلاة ليلة النصف من شعبان أحاديث موضوعة وواحداً مقطوعاً " وقال في كتاب آخر له :" قال أهل التعديل والتجريح : ليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح "( ).
ثالثاً: ما رُوي عن عكرمة في تفسير قوله تعالى  إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كلُّ أمر حكيم  [ الدخان : 3-4]" أن الليلة المباركة هاهنا ليلة النصف من شعبان ، يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد " ( ).
والجواب: أن من قال إن المراد بـ " الليلة المباركة " "ليلة النصف من شعبان " وهي التي قال الله عنها  فيها يفرق كل أمر حيكم [ الدخان:4] فقد أخطأ وجانب الصواب (**)، فالليلة المباركة هي ليلة القدر، وبه قال جمهور العلماء ورجحه الطبري والواحدي وابن العربي و القرطبي والنسفي وابن كثير وابن القيم وابن رجب والشوكاني والقنوجي و السعدي وابن عاشور وغيرهم ( ) ثم إن ابن أبي حاتم الذي نقل عن عكرمة هذا القول، قد نقل من طريق عطاء الخراساني عن عكرمة  فيها يفرق كل أمر حكيم  قال" يقضي في ليلة القدر كل أمر محكم " ( ).
قال ابن كثير :" ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان ، كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة ، فإن نص القرآن أنها في رمضان "( ). وقال ابن العربي بعد أن بين أنها ليلة القدر وأنها في رمضان " فمن زعم أنها في غيره فقد أعظم الفرية على الله " ( ).
رابعاً: ويرى البعض أن من أسباب تعظيم هذه الليلة أنه تم فيها تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة( ).
والجواب: أن هذا القول لا يُعوَّل عليه ، لأن هذه روايةٌ من تسع رواياتٍ أخرى، ولم يجزم بأن التحويل حصل في هذه الليلة،بالإضافة إلى أن أسانيد الجميع ضعيفة ( ).ولو سلمنا جدلاً بأن التحويل كان في تلك الليلة فلم يكن من عادة النبي  اتخاذ أيام الحوادث أعياداً ومواسم ، و " المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع " ولم يرد في الشرع شيء من ذلك.
ثم إن من قال بفضلها فقد اختلفوا على كيفية إحيائها إلى قولين:
القول الأول : يستحب إحياؤها جماعةً في المساجد، قال به : خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما،وكانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك،ووافقهم على ذلك إسحاق بن راهويه – رحمهم الله -.
القول الثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء،ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه،قال به الأوزاعي وابن الصلاح واختاره ابن رجب والسيوطي وصاحب مجالس الأبرار وشيخ الحديث عبيد الله المباركفوري،وشيخ الإسلام ابن تيمية بل إنه قال" إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف فهو أحسن "وبه قال المحدث شمس الحق العظيم آبادي ( ).
والراجح _ والله أعلم _ أن إحياء ليلة النصف من شعبان بأي نوع من العبادة والاحتفال بها بدعة مطلقاً سواء أحياها شخصٌ على وجه الانفراد أو في الجماعة ، في المسجد أو في البيت،وذلك لما يأتي:
1- أنه لم يثبت عن النبي  أنه أحياها و لا أحد من أصحابه رضي الله عنهم وإنما ذلك أمر محدَث، قال ابن رجب: قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي  ولا عن أصحابه " ( ) .
2- أن الأحاديث الواردة في ليلة النصف من شعبان والتي جاء فيها " أن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن "( ) فهذا لا يدل على تخصيص هذه الليلة بفضل من بين الليالي الأخرى لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله  قال : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " ( ) فإطلاعه سبحانه وتعالى على خلقه وغفرانه لهم،ليس متوقفاً على ليلة معينة في السنة أو ليالي معدودة ( ).
3- ولو سلمنا جدلاً أن الحديث صحيح ، وأنه يدل على فضل هذه الليلة فمن أين لهؤلاء تخصيص هذه الليلة بصلاة دون الليالي الأخر، قال أبو شامة: " ليس في هذا بيان صلاة مخصوصة ، وإنما هو مشعر بفضيلة هذه الليلة ، والتهجد وقيام الليل مستحب في جميع ليالي السنة ، وكان على النبي  واجباً ، فهذه الليلة بعض من الليالي التي كان يصليها  أو يحييها ..." ( ).
وقال أيضاً"ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع،بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان،ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة،فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر،أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر،فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيه كان له الفضل على نظيره في زمن آخر،فالحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفة عبادة رسول الله  ( ).
4- ثم إذا كانت المغفرة عامة لجميع خلقه في هذه الليلة – كما هو ظاهر الحديث السابق- فما الذي حدا بهم إلى إحياء هذه الليلة وإحداث العبادة فيها من الصلاة والذكر وغير ذلك ؟.
5- أن من قال بجواز صلاة المرء فيها لخاصة نفسه أو في جماعة خاصة دون الإتيان إلى المساجد والازدحام فـيـها، لم يدعم موقفه بالدليل،ولا دليل على ذلك التخصيص،وكما سبق قول أبي شامة – رحمه الله - " أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع ".
و قال الشيخ ابن باز – رحمه الله - : " وأما ما اختاره الأوزاعي – رحمه الله – من استحباب قيامها للأفراد،واختيار الحافظ ابن رجب ( ) لهذا القول فهو غريب وضعيف،لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله،سواء فعله مفرداً أو في جماعة، وسواء أسرّه أو أعلنه لعموم قوله  "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها "( ).
وقال بعد أن ذكر الحديث" لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي...الحديث"( ) فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً ، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها، لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله  ، فلما حذر النبي  من تخصيصها بقيام من بين الليالي ، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص ، ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها،نبه على ذلك وحث الأمة على قيامها،وفعل ذلك بنفسه،كما في الصحيحين عن النبي  أنه قال "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"( ) فلو كانت ليلة النصف من شعبان،أو ليلة جمعة من رجب،أو ليلة الإسراء والمعراج،يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي  الأمة إليه،أو فعله بنفسه،ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة  إلى الأمة ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس وأنصحهم بعد الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام- وما دام لم يثبت عن رسول الله  ولا عن أصحابه  شيء في فضل ليلة النصف من شعبان فعُلم أن الاحتفال بها بدعة محدثة في الإسلام وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة بدعة منكرة "( ).
وبهذا يترشح أن القول بإحياء هذه الليلة بنوع من العبادة أو الاحتفال بها بدعة منكرة، لم يُعهد ذلك في عهد النبي  ولا في عهد خلفائه الراشدين ولا في عهد الصحابة  أجمعين، والله تعالى أعلم.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ليست هناك تعليقات: